هاجر ليتذكـــــــــــــــــر
بقلم مصطفى منيغ
كثيرا ما انتبهت إلى تحريف مقصود طال ذكرى الرواد الأوائل من المهاجرين بعد استقال المغرب لديار الغرب ، وخاصة هؤلاء الذين انتهت بهم الرحلة / الحلم ليستقروا إما في هولندا أو بلجيكا . كأن القصد من التحريف ، طمس بصمات ظلت محتفظة بأعمال كبيرة أصاب بها أصحابها هدف تقريب معالم الحضارة المغربية لعموم الشعبين الصديقين في الدولتين المتجاورتين ، تقاوم الجحود والنسيان ،لتصل الذروة في التسابق لشغل مناصب تخص الجالية مؤخرا كرغبة من السلطة لخدمتها خدمة خاصة لا علاقة لها لا بمصالح هذه الجالية لا هم يحزنون ، وإنما لتركيب إطار في واجهة تعرض(من خلالها)اهتمامات جلب زبناء يبتاعون السراب بعملة مشتقاتها من الصعب الأصعب. وقد قالها الصديق التطواني كلمة لا زالت ترن في أذني حتى الساعة : لن ينصفك التاريخ ولو اشتغلت لصالح بلدك في المريخ . كنت ساعتها ، وثلة من الإخوة الشرفاء نسمع ما يقال عنا في مقاهي أطريخت ، أو بعض المصانع ،أو مقرات عملنا هناك كلما نشر خبر عن حادث ما أحد المعنيين فيه مغربي الجنسية أو عربي عموما . نسمع ونتأثر ، ونجد أنفسنا مشلولين عن حركة نظهر بها أننا من أمة ذات حضارة مشرفة ، فلا نجد غير الصمت والانصراف كل إلى مشاغله تحقيقا لذاك الحلم الذي راودنا قبل الرحيل من المغرب ، المبني على امتلاك حياة أنعم وأطيب من حياتنا داخل أوطاننا أو هكذا تهيأ لنا صراحة . شخصيا لم يكن يرضيني البقاء مطأطأ الرأس كالمغلوب على أمره غير قادر على الرد المؤثر بإظهار وقائع مساعدة وبأساليب متحضرة جد مقنعة أننا عكس أية صورة مغلوطة يريد من يريد إبرازنا بها ، الفاعل الذي عادى بي لليلة من التفكير قضيتها مستيقظا ساعدني عملي كموظف استقبال في نزل "سميس" الشهير التقيد بها ، أن اخرج بفكرة ما كدت انهي عملي ذاك حتى توجهت لمكتب الدكتور "باوس" المحامي المستشار في وزارة العدل الهولندية آنذاك طارحا عليه فكرة تأسيس جمعية تعني بشؤون المهاجرين المغاربة ، مقترحا عليه في نفس الوقت أن تحمل اسم جمعية الصداقة المغربية الهولندية للمهاجرين المغاربة في "أطريخت". لم يستحسن الفكرة فحسب بل هيأ لها (من تلك اللحظة) كل أسباب النجاح بجعل نفسه مشاركا مباشرا في تسيير شؤونها الإدارية بالدرجة الأولى وبهذا لم يمر أسبوعا واحدا إلا والجمعية قد أصبحت واقعا ملموسا ، وملجأ آمنا للإخوة المغاربة الوافدين على تلك المدينة الجميلة، القاصدين خدماتها ، المدينة التي أكن لها شخصيا المحبة والتقدير لأسباب سأصل إلى شرحها مستقبلا. قانون الجمعية حررته بنفسي جاعلا منه مواكبة تشخيص ما نود الوصول إليه كمغاربة بقالب مغربي صرف يضمن لنا استقلالية القرار والسير وفق ثوابت لا يمكن تجاوزها تبقى على الصداقة المغربية الهولندية وتنميها بما هو كفيل بخلق تعاون ثنائي حقيقي في كل المجالات ، حتى يكون دور الجمعية مكملا لكل رغبة مماثلة للجانب الهولندي وغير معاكس لها. والدكتور باوس وهو رجل قانون أدرك أن الفكرة بتطبيقها كما يجب ستعد لبنة أولى تتأسس عليها ما يفتح المجال لتقارب الحضارتين الهولندية والعربية عموما ، وما يسد حاليا الخصاص بهذا الأسلوب الراقي المشجع لمبادرة عقد حوار صريح ونزيه بين ثقافتين تهدفان (لدى أصحاب النيات الحسنة) الاقتباس المتبادل مما تتفقان أنه الحل الأمثل للتعمق في معرفة كل طرف للطرف الثاني معرفة تضمن نشر التسامح والإخاء والأمن والسلام، لذا لم يجد غير مصارحتي بوجود آنسة هولندية تتقن اللغة الإسبانية (مثلي) من الأفضل ضمها إلى الجمعية حتى لا أجد أية صعوبة في طرح ما أود طرحه مترجما (الترجمة الجيدة)إلى اللغة " الندرلندية"، ولم تمر سوي لحظات على موافقتي كرئيس للجمعية ، وبعد دقيقتين من مهاتفته المعنية بالأمر، أطلت علينا الآنسة " ليدوين سمبول" ، التي لا زال محياها يداعب ذكرياتي بأدق التفاصيل حتى الآن، نحيفة بعض الشيء لكن في تناغم مع قدها المتوسط الطول ، شقراء الشعر ، بيضاء البشرة ، خضراء العينين ، بثغر لا يكف عن الابتسام ، أنثى بمعنى الكلمة ، لا أقولها بعقلية شاب أعزب وافد من شمال إفريقيا العربي ، يحيا تقاليد .. المرأة داخلها .. عالم مغلق لا يلجه إلا الراغب في إتمام نصف دينه ، وإنما بعقل إنسان احترم المرأة في كل مكان وزمان، ومع هذا الاحترام يود العثور على إنسانة تشاركه مطامح مسير على درب الحياة بهدوء وسكينة وراحة بال وانسجام لا يعكر صفاءه أي عارض في أي لحظة من لحظات البقاء على قيد الحياة . وبالرغم من المقام المهيأ كان لمثل الشروع في تخطيط ترابط لا يترك للصدفة سبيلا للانصراف دون استغلالها الاستغلال الشريف ، ظل الاهتمام بإنجاح أعمال الجمعية والخروج بها للوجود ، المسيطر الأكبر . وللتاريخ أقول : "لدوين"كان لها الفضل بعد الصديق الدكتور " باوس " في وقوف الجمعية على رجلين قويين ، حتى الأصدقاء الذين سعيت ليتم ضمهم للجمعية المذكورة : ومنهم محمد التطواني ، ومحمد الزوين ، والصغير السلاوي ، ومحمد منيصر ، ومصطفى البرابش ، والعنايا ، وعشرات آخرين ، وعلى رأسهم الصديق العزيز محمي سليمان . حتى هؤلاء في مقدور الذين لا زال منهم على قيد الحياة ، التأكيد على ذلك .
تعلمت اللغة الهولندية بقدر حاجتي لاستعمالها ، بواسطة رفيقتي في " أطريخت" " لدوين "، بل ازدادت خبرتي في التعامل مع عقلية أهالي البلد النظيف، الجميل ، المنظم ،الساحر، المحترم لأقصى الحدود ، وأيضا بمصاحبة " لدوين " ، وكلما مرت الأيام أدركت كم دور المرأة الهولندية أساسي في المجتمع من حيث تنظيم الأسرة ، اختلف ساعتها ونفس التنظيم عندنا اختلاف الليل عن النهار ، فهي القائدة المطلقة لكل الترتيبات الحياتية ، والمخططة الأهم للوصول بسفينة ذات الارتباط إلى شط النجاة المفعم بالراحة ، والطيبوبة، والنبل ، والسعادة ، والتقاعد المريح آخر المطاف، بعد قطع المحطات المحسوبة بثلاث ، أو أربع ، أو خمس عقود بطول عمر شاءه الله سبحانه وتعالى لكل إنسان من خلقه. كانت " لدوين " إنسانة رائعة من أسرة محافظة عريقة ، والدها اشتغل بسلك الدبلوماسية ، حيث عينته مملكته الهولندية قنصلا لها بإحدى دول أمريكا اللاتينية ، وهناك تعلمت الصغيرة "لدوين" اللغة الإسبانية تحدثا وكتابة . مرة دعتني ضيفا على بيتها ، لبيت بكل سرور ، فكانت المرة الأولى التي ولجت فيها بيتا هولنديا لأشاهد عن كثب ذاك التنسيق الشامل كل محتوياته مقربا تناغم الألوان والأشكال في صورة تبرز ذوق صاحبة البيت وأسلوب حياتها في التعامل مع المرئي يوميا الباعث في النفس راحة الانزواء التام يومي السبت والأحد لتجديد خلايا الإقبال على مستلزمات ضرورية للإبقاء على نفس المستوى من العيش الطيب ، من اجتهادات في العمل من الاثنين إلى الجمعة على امتداد قد يصل أحيانا 16 ساعة في اليوم. وتذوقت من أطباق تفننت المضيفة في تحضيرها على الطريقة الهولندية الرائعة ، مهيأة وفق جو يومين قضيتهما هناك ، حيث ثلج " دجمبر" يغطي – كما تظهر شرفة البيت الرئيسية ذات الزجاج السميك المغطى "بالدنتيل" الأخضر الشفاف – جنيات الطرقات وسطوح الأبنية المشيدة وفق هندسة معمارية سائدة في شمال أوربا قادرة على تحمل البرد القارص من جهة وثقل الثلج المتساقط عليها بكثافة في مراحل معينة من فصل الشتاء من جهة ثانية ، أطباق تعلوها دهون خفيفة تفرزها شرائح لحم البقر المصاحب بخضر متنوعة الأشكال مرصعة بقطع الجبن الهولندي الأصيل المستورد من " ألكمار" ، وما زاد من شاعرية المقام انبعاث صدى خافت نوعا ما من آلة تشجيل تعيد ما تصدح به أغاني جنوب أمركا من معاني الرقة في طرب بريء تطبع المساحة برومانسية لم تكن مألوفة بالمباشر عند شاب في العشرينات من عمره وافد من شمال افرقيا العربي تربى التربية المحافظة ، ومع ذلك حافظ هذا الشاب على كيانه ليرقى مع ضميره بالتصرف المتحضر إلى منصب يشغله عن جدارة واستحقاق كرئيس لجمعية أصلها مغربي صرف ومقامها المملكة الهولندية المحترمة ، الداعية إلى تعميق التعارف بين الطرفين تعارفا يبني لمستقبل تعاون أساسه المودة والأمن والسلام . حقيقة فاتحتني العزيزة " لدوين " في شأن الارتباط الرسمي بيننا ، لكنني تهربت في نبل وبأدب جم حتى لا اجرح عواطفها الرقيقة ، إذ قلبي وعقلي كانا مرتبطان مع قاعدة الزواج من امرأة مسلمة مثلي ، عربية اللسان والتربية والخصال ، لينطق من يخرج من صلبي أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله .
لم يكن المغرب قادرا كما سبق الذكر لاستيعاب وتوظيف حماس الشباب مثلي في تحقيق نماء مطلوب والمرحلة مرحلة بناء حقيقي لدولة عصرية بكل ما ترمز إليه الكلمة ، لأولويات فرضت نفسها عليه ،تعلقت بترتيب النظام احتياجاته الأساسية لضمان استمرارية مريحة وإن اختلف العهدين ونمط الحكم فيهما ، المسألة لم تكن سهلة، خاصة والأطماع (كما سميت آنذاك) تكبر يوميا لنزع مكسب يضاف لمطالبة حزب كبير معارض(منذ نشأته) للمشاركة المباشرة في تدبير الشأن العمومي تحت شعار التقليل من دكتاتورية النظام ، وما تبع ذلك من اضطرابات وقلاقل ، حقيقة يصعب حصرها لكثرتها بما سببته من مآسي لأسر لازالت تعاني من ويلاتها. لا يمكن حجب الحقائق عنا إلى الأبد ، كان المفروض أن يعلم الشعب المغربي في يوم لاحق (لم يصل بعد للأسف الشديد) من أخر مسيرته صوب التقدم ، ومن عمد أن يأتي الاستقلال خدمة لمصالح ضيقة لا أقل ولا أكثر، حينما ربط هذا الاستقلال بنقص فادح في بسط السيادة على مجموع التراب الوطني الموحد تعلق الأمر بالشمال أو الجنوب أو الشرق ، ليظل المغرب يعاني والمغاربة حتى الساعة وهما يحاولان استرداد ما يكاد يضيع ،القضية لا تحتاج لذكاء حاد حتى نصل إلى الإجابة المقنعة. ومتى اتضحت الأمور إلى منوال لا يترك حتى الجزئيات دون شرح ومستفيض، علمنا ما الهدف لتركنا دوما في الصف الثالث بدل الثاني ، ولما لا مع الأوائل ؟؟؟.
كنت في شمال المغرب ساعتها وتحديدا في مدينة تطوان انهي في المدرسة بوليتكنكا(جابر بن حيان حاليا) دراستي الثانوية في قسم الباكلوريا حينما كان مديرها الأستاذ محمد الخطيب يساعده كحارس عام الجزائري السي قدور ، والأستاذ الجحرة ككاتب ، ومحمد المرابط ، والفقيه الصوردو كأستاذين فريدين وسط جماعة من الأساتذة الإسبان، إذ باستثناء الفلسفة التي كان يدرسنا إياها المرابط ( لا زال في نفس المدينة يشغل الكاتب العام المحلى لإحدى النقابات العمالية) بعد قدومه من مصر والتحاقه بنفس المؤسسة التعليمية ، واللغة العربية التي كان يلقنها لنا الأستاذ المرحوم محمد الصوردو ، كل المواد العلمية الأخرى يتم تحصيلها باللغة الإسبانية . بعد اجتيازي المرحلة التحقت بالمدرسة المحمدية للمهندسين لأسبوع واحد فقط ، صراحة لم أتمكن من استيعاب المحاضرات الملقاة علينا باللغة الفرنسية التي كنا نجهل حتى الميسور من مفرداتها ، خاصة ونحن القادمون من الشمال الذين قضينا عمرنا الدراسي فيه بالغة الإسبانية لا غير ، اللهم ما تعلق ببدايتنا في الكتاب ثم مدرستي " الأهلية الحسنية " و " سيدي بوأحمد" ، و"ثانوية القصر الكبير" ، و"المعهد المحمدي" بمدينة القصر الكبير ، حيث كانت العربية جزءا أساسيا في البرامج التعليمية المطبقة علينا ، ما عدا ذلك كانت الإسبانية هي العمود الفقري في تكويننا العلمي ،فاتفقت وستة من رفاقي الاتصال بوزير التعليم وكان أنذاك السيد يوسف بلعباس الذي استقبلنا مكرها ، بعدها حصلت واقعة كان لها الأثر البليغ في مسرى حياتي السياسية خاصة ،إذ أدركت أن المغرب الرسمي، وخاصة في هذه المرحلة الانتقالية (كما كانت السياسة الرسمية تريد إقناعنا بذلك لنمتص ما يرتكب في حقنا من أخطاء وجسيمة) لن يعبأ بالشمال ،ومشاكل الشمال، وطموحات أبناء الشمال ،لانشغاله بجهة أخرى، التي كان على شخصيا الانتظار أربعين سنة حتى أتمكن من معرفة من تكون هذه الجهة ، وطبعا سأبين الأمر حالما أصل إليه بمشيئة الرحمن الحي القيوم لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه المصير .
(يتبع)